وثيقة أعدتها الجامعة البهائية العالمية عن "القيم، المقاييس والفقر: مناقشة التقرير الخاص بالتطوير العالمي لعام2000". رعى هذه الورشة كل من: "البنك الدولي"، "حوار الأديان والتنمية العالمية"، "جامعة كورنيل"، "مؤسسة ماك آرثر"، "المؤسسة السويدية للتطوير العالمي"و"مؤسسة التطوير السويسرية".
جوهانسبرج، جنوب إفريقياإن عمليات التغيير التي توجّه الشؤون الإنسانية الآن تنذر بمرحلة انتقالية لا مفر منها لقيام مجتمع عالمي. ويتمثل التحدي الرئيس المتأصل في هذه المرحلة الانتقالية في تهيئة ظروف من المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الدول التي تشكّل مجتمعنا العالمي وداخلها. إن رفع عبء الفقر من العالم يتطلب التزاماً عميقاً بالمبادئ الخلقية وإعادة ترتيب الأولويات بشكل جذري.ولكن ربما كان الأهم من ذلك، أن المعايير المادية التي تقود التفكير في التنمية يجب أن تفسح المجال أمام إطار جديد من المفاهيم يعترف صراحة بالقوى الروحانية والثقافية والاجتماعية التي تحدد هوية الفرد والمجتمع. وفي هذا الصدد، فإن عقد مؤتمر "حوار أديان العالم والتنمية" في قصر لامبث (Lambeth Palace) في شباط/ فبراير 1998، ومبادرات مماثلة تبحث دور الدين والقيم الروحية في تعزيز رفاه الإنسان، جميعها تمثل مساهمات هامة في الحديث عن التنمية الاجتماعية والاقتصادية.([1])
وعلى مدى العقود العديدة الماضية، أصبح العاملون في مجال التنمية مدركين تدريجياً لمدى تعقيد عملية التنمية. ويمكن رؤية هذا التطور في الفكر التنموي من خلال التحول في التركيز من برامج تعمل على زيادة رأس المال وتهدف إلى تعزيز برامج التصنيع، إلى برامج تركز على الرعاية الصحية، والأساليب الزراعية الجديدة، والتكنولوجيا التقليدية، والحفاظ على البيئة، وإلى مبادرات تروّج للمشاركة وتنظيم المجتمع. إلا أنه على الرغم من هذا الوعي المتنامي لدى العديد من العوامل المترابطة الكامنة وراء التنمية، فإن جدول أعمال التنمية الدولية لا يزال خاضعاً لمجموعة محدودة من الافتراضات والنُهُج التي لا تأخذ بعين الاعتبار الكثير مما تم تعلمه.
من الواضح أن هناك بعداً آخر من التعقيد يجب إدماجه الآن في معادلة التنمية. فيجب تركيز الاهتمام الآن على صميم الهدف من وجود الإنسان والحافز له ألا وهو: الروح البشرية . فمن وجهة النظر البهائية، لا شيء سوى إيقاظ روح الإنسان يمكنه خلق الرغبة في إحداث تغيير اجتماعي حقيقي، وغرس الثقة في قلوب الناس بأن تحقيق مثل هذا التغيير ممكن بالفعل. وبينما تلعب النُهُج الواقعية لحل المشاكل دوراً أساسياً واضحاً في مبادرات التنمية، فإن الاستفادة من هذه الجذور الروحية للدوافع البشرية لإيقاظها تكفل توفر الدافع الأساسي للتقدم الاجتماعي الحقيقي، وعندما تدمج المبادىء الروحانية بشكل كامل مع النشاطات التنموية للمجتمع فمن المرجّح أن تكون الأفكار والقيم، والمقاييس العملية التي تنبثق عنها هي التي تشجع الاعتماد على النفس وتحفظ كرامة الإنسان، وهكذا يتم تجنب أساليب الاتكال ومحو حالات عدم المساواة الفادحة تدريجياً. إن توسعة عملية التنمية تأخذ في الحسبان القدرات الروحية للناس وطموحاتهم، تمثل خطوة أساسية نحو إيجاد الأوضاع والظروف اللازمة لاستقرار العالم وازدهاره.
تعلمت قطاعات كبيرة من البشرية، عن طريق تعاليم الدين وهدايته الخلقية، أن تضبط نزعاتها وأهوائها الدنيا وتنمّي صفات تؤدي إلى النظام الاجتماعي والتقدم الثقافي. فصفات مثل الشفقة، الصبر والتحمل، الأمانة، الكرم، التواضع، الشجاعة والرغبة في التضحية في سبيل الصالح العام تشكل الأسس غير المرئية، ولكن الضرورية، لحياة اجتماعية متقدّمة. إن معرفة الطبيعة الروحية للإنسان وتهذيبها قد سمت بحياة الناس وأغنتها في كل مكان، وولّدت تلاحماً ووحدة في الهدف داخل المجتمعات وفيما بينها.([2]) فالحضارة الحقة لا تتوطد على أسس التقدم المادي فقط بل على القيم السامية التي تحدد هويتها وتعمل على ترابط المجتمع. فالدين من الناحية الواقعية الملموسة يؤمن الطوب والملاط لبناء المجتمع - أي العقائد المشتركة والقيم الأخلاقية التي توحّد الناس في مجتمعات محلية، وتعطي توجيهاً ومعنىً حقيقياً لحياة الفرد والجماعة. أكد حضرة بهاءالله أن "الدين هو النور المبين والحصن المتين لحفظ أهل العالم وراحتهم... فلو احتجب سراج الدين لتطرق الهرج والمرج وامتنع نيّر العدل والإنصاف عن الإشراق وشمس الأمن والاطمئنان عن الأنوار."([3]) (لوح الإشراقات، الإشراق الأول، كتاب مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، الصفحتين 23-24)
إن تقدم الفرد وتنمية المجتمع يتطلبان توفّر الوعي الروحي والموارد المادية. لذلك فالترقي المادي يجب أن يفهم بالأسلوب الأفضل وهو أن لا يعتبر هدفاً بحد ذاته بل أداة للتقدم الاجتماعي والروحي والأخلاقي. فالتغيير الاجتماعي الهادف لا ينشأ نتيجة اكتساب المهارات التقنية بقدر ما يعتمد على تطوير صفات ومواقف سلوكية تعزز الأنماط التعاونية والمبتكرة للتفاعلات الإنسانية.وباختصار، فإن الجانبين المادي والروحاني للحياة اليومية متلازمان ويجب أن يُعنى بكليهما.
يبشر هذا الفهم الجديد للتطوير بظهور مجتمعات يعزز فيها تطبيقُ القيم الروحانية، كالعدالة والأمانة والشفقة، الرفاهَ المادي. وفي الوقت نفسه فإن الموارد المادية والتقدم المادّي سيجعلان من الممكن إيجاد سبل جديدة للجهود الروحية التي ستدعم تطوير القدرات الفردية والصالح العام.
الدين والعلم وبناء القدراتإذاً كيف يمكن غرس المبادئ الروحية في أذهاننا، وفي ممارسة عملية التطوير وتقييمها؟ إن هذا التحدي ليس جديداً، فكثيراً ما واجه المفكرون في مجال التطوير، خلال العقود السابقة، قضايا مرتبطة بالقيم والمعتقدات. إلا أنهم في معظم الأحيان تجنبوا الخوض في إجراء دراسة شاملة لهذا الموضوع.
فإذا كان على حديث التنمية أن يتناول قضيّة القيم بالشكل الصحيح، فسيتطلب ذلك حواراً دقيقاً جداً بين العمل العلمي وبصائر الدين.([4]) ومثل هذا الحوار ضروري للغاية لمشروع بناء القدرة البشرية، الذي يتنامى الاعتراف به كهدف أساسي للتنمية. ولدى اعتبار التنمية عاملاً لبناء القدرات فإنها ستهتم بشكل أساسي بتوليد المعرفة وتطبيقها ونشرها. فإذا تم قبول الحقيقة القائلة بأن العلم له جانبان، روحي ومادي، فسيمكن فهم أن الدين والعلم نظامان متفاعلان للمعرفة يوفران المبادئ الأساسية التي تنظم عمل الأفراد والمجتمعات المحلية والمؤسسات وتطورها.([5]) فإذا وضعنا توليد المعرفة ونشرها في صلب عملية التخطيط للتطوير وتطبيقه يمكننا من دراسة التطبيق العملي للقيم الدينية، بما فيه دور هذه القيم في تخفيف مشكلة الفقر.
أصبح من المقبول عموماً، أن على الفقراء المشاركة بشكل مباشر في الجهود المبذولة لتحسين أحوالهم الشخصية. ولكن طبيعة تلك المشاركة لا تزال بحاجة إلى دراسة مستفيضة. فمن وجهة النظر البهائية، يجب أن تكون هذه المشاركة أساسية وخلاقة؛ وأن تسمح للأفراد الحصول على المعرفة بأنفسهم وأن تشجعهم على تطبيقها عملياً. وعلى وجه التحديد، لن يكفي أن تنهمك شعوب العالم في مشاريع لمجرد الاستفادة من نتاج المعرفة، حتى لو كان لهم رأي في اتخاذ بعض القرارات. بل عليهم الإنشغال بتطبيق المعرفة لتحقيق الرفاه والصالح العام، وبالتالي يولدون معرفة جديدة ويسهمون بطريقة أساسية وهادفة في تقدم الإنسانية.([6])
تعتمد قدرة أية مجموعة في المشاركة الكاملة في عملية تطويرها، على مجموعة واسعة النطاق من القدرات ذات العلاقة المتبادلة فيما بينها على مستوى الفرد والمجموعة. ومن بين أهمها القدرات اللازمة للمشاركة الفاعلة في تخطيط وتنفيذ نشاطات التنمية، من قِبَل استعمال أساليب اتخاذ القرار التي تتصف بالشمولية واللاعدوانية؛ التفكير بطريقة منهجية منظمة بخصوص المشاكل والبحث عن حلول لها؛ التعامل مع المعلومات بدقة وكفاءة بدلاً من الإستجابة دون درايةللدعايات التجارية والسياسية؛ المبادرة بأي عمل بطريقة مبدعة ومنضبطة؛ اتخاذ الخيارات المناسبة في الأمور التكنولوجية بعد الإلمام الكافي بالموضوع؛ التنظيم والانشغال في العمليات ذات النتاج السليم بيئياً؛ المساهمة في الإدارة الفاعلة للبرامج والمشاريع العامة، ترويج التكافل ووحدة الهدف والرأي والعمل؛ استبدال العلاقات المبنية على أساس السيطرة والمنافسة بأخرى مبنية على أساس التبادل والتعاون وخدمة الآخرين؛ التفاعل مع الثقافات الأخرى بأسلوب يؤدي إلى رقي الثقافة وليس إندثارها؛ تشجيع الاعتراف بأصالة نبل الإنسان وسموّه؛ وضع العمليات التعليمية التربوية والمشاركة فيها، التي تساعد على نمو الفرد وتغيير المجتمع ، المحافظة على مستويات عالية من الصحة البدنية والعاطفية والعقلية؛ إشباع التفاعلات الاجتماعية بإحساس قوي بالعدالة، وإظهار الاستقامة الأخلاقية في الإدارة الخاصة والعامة.
رغم عدم اكتمال هذه القائمة، إلا أنها تقترح مجموعة من القدرات اللازمة لبناء النسيج الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي للحياة الجماعية، وتركز على الدور الحيوي للموارد الدينية والفكرية لتعزيز التنمية. كما توجهنا لأنواع المؤشرات التي قد تزودنا ببصيرة ورؤية مفيدة لما فيه خير المجتمعات المحلية وصالحها العام.
قياس الفقر والرخاء:إذا كانت التنمية في الأساس عملية يصبح فيها الأفراد والمجتمعات المحلية العاملون الرئيسون في تعزيز رفاهيتهم من الناحية المادية والروحية والإجتماعية، فكيف يمكن قياس ذلك؟ بل هل من المعقول توقع إمكانية قياس عملية جارية ومستمرة من العمل والتقييم والتعديل: عملية تطور فيها المجتمعات المحلية تدريجياً قدرتها على تحديد احتياجاتها وتحليلها ومن ثم تلبيتها؟ من وجهة النظر البهائية، الجواب هو نعم. ففي الوقت الذي يجب أن يوجّه فيه العمل المحدّد في أي مشروع نحو إجراء تحسين وتقدّم ملحوظ، وبالتالي يمكن قياسه في بعض جوانب الحياة، فإن قدرة المجتمع المحلي لمعالجة شؤون التنمية، على مستويات تزداد ارتفاعاً من حيث التعقيد والتأثير، يمكن قياسها أيضاً ولكن ليس بالوسائل التقليدية.
أحد المقاييس الحيوية لرقي مجتمع محلي وتقدمه هو مدى استخدام أساليب المشاركة والتعاون في اتخاذ القرار لتوجيه عملية التنمية. وكمثال لتوضيح ذلك، فإن نشاطات التنمية البهائية، منذ بدايتها، قد أكدت على اتخاذ القرار الجماعي والعمل الجماعي على مستوى القاعدة. فتحسين قدرة جميع أفراد مجتمع محلي على المشورة هو مقياس رئيس للنجاح في كلّ مشروع تنمية بهائي. ولأن كلاً من عملية التطوير ونتائجها أمران ملحوظان، لذا يمكن قياسهما بنحو ما. إن استخدام أساليب المشورة في صنع القرار يمكن أن يؤدي إلى ابتكار حلول جديدة لمشاكل المجتمع؛ وتوزيع مواردها بشكل أنسب وأكثر عدالة؛ وإشراك أولئك الذين تم إقصاؤهم تاريخياً من عملية صنع القرار، كالنساء والأقليات، والنهوض بهم. لقد أثبتت التجربة أن المشورة تمكّن المجتمعات من دعم المبادرات الخاصة بالتنمية وتعديلها، وبذلك تسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي ونوعية أفضل في مستوى المعيشة. إن قدرة الناس على الاجتماع معاً في ظلّ هذه الأنماط الجديدة والبنّاءة من المشاركة والتفاعل لهي، من بعض النواحي، النتيجة الأكثر أهمية - ولذلك، فهي الأكثر أهمية للقياس - من الأهداف الممكن قياسها التي ترافق عادة على نحو تقليدي مشاريع التنمية.
ويمكن تقييم مبادرات التنمية بناءً على التطبيق الواقعي الملموس لعدد من المبادئ الروحية على حياة الفرد والمجتمع المحلي، منها: الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد؛ العدل والانصاف؛ المساواة بين الجنسين؛ الأمانة والقيادة الأخلاقية؛ وحرية تحري الحقيقة. ورغم أن هذه المبادئ الخمسة ليست الوحيدة التي يجب أخذها بعين الاعتبار، إلا أنها تشمل مفاهيم متنوعة كافية تسمح بإجراء تقييم شامل لرقي المجتمع وتقدمه. ولدى التطبيق الكامل لهذه المفاهيم الروحية فإنها ستجذب العديد من العوامل غير الملموسة التي تفضي إلى تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تطبيق مبدأ "الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد" في حقل التعليم، إلى وضع مناهج دراسية تتبنى وتعزز مفاهيم التسامح، والتفاهم، والتراحم والمواطنة العالمية. ويمكن أن يؤدي مبدأ مساواة النساء والرجال إلى سياسات تطلق قدراتهم التي كبتت حتى الآن. وإذا ما طُبّق مبدأ الاستقلال في تحري الحقيقة في مشاريع التنمية فيمكن أن يضمن تعريف المشاكل وتحديدها بالشكل الصحيح، وأن تعكس الحلول الاحتياجات الحقيقية للأشخاص المعنيين.وقد وردت مناقشة مفصلة حول كيفية تشكيل هذه المبادئ الأساس لمؤشرات ملموسة للتطوير في وثيقة بعنوان، "تثمين الروحانية في التنمية: دراسات مبدئية في خلق الروحانية كأساس لمؤشرات التنمية". وهذه الوثيقة قدّمتها الجامعة البهائية العالمية إلى "حوار الأديان والتنمية العالمية" في قصر لامبيث سنة 1998.
إن إيجاد مقاييس نوعية واسعة المدى لتقدم عملية التنمية ستكون له دلالات مباشرة إلى أنواع المشاريع التي سيتم تمويلها. وقد أظهرت التجربة أن المشاريع المبتكرة محرومة في الغالب من الدعم المالي المطلوب عندما تؤكد معادلات التقييم بعض المقاييس الاقتصادية أو المادية المحددة. فعلى سبيل المثال، قد يكون من الأولى والأهم المشاركة أولاً في وضع الهدف والمشورة حول احتياجات المجتمع المحلي وما فيه خيره ورفاهه قبل متابعة النشاطات التي ترمي إلى تحصيل الدخل المادي. إن تبني وتطبيق مقياس تقييم صارم لا يمكن أن يعتبر أسلوباً علمياً لا سيما إذا افترض نتائج أفضل قبل الأوان. ربما توجد، في الواقع، في مجتمع ما أو مجموعة ثقافية معينة، طرق متنوعة يمكن أن تحقق النتيجة المادية نفسها بينما تدعم أهدافاً أخرى مثل التلاحم الاجتماعي أو تحسين الأخلاق.
من الواضح أن عملية تخطيط مشاريع التطوير وتقييمها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مجموعة واسعة من الحدود تتجاوز فئات بسيطة من العمل الاقتصادي. فالمؤشرات التقليدية لعوامل مثل النمو الاقتصادي، الصحة، أو التعليم، قادرة فقط على نقل صورة ضيقة جداً بخصوص رفاه المجتمع. قد يكون من أهم مؤشرات نجاح نشاط تنموي إذا تمت الاستفادة من آراء ومواهب جميع أفراد المجتمع واستخدام عمليات المشورة لصياغة المشاريع في المجتمع وتنفيذها، أو بثّ جوٍّ من الوقار والتفاؤل والالتزام يوسم حياة أولئك المعنيين بهذا النشاط. رغم أن عوامل نوعية كهذه قد يكون من الصعب قياسها في البداية، إلا أن المشاركين في جهود التنمية سيتمكنون دون شك من مساعدة أخصائيي التنمية في إيجاد مؤشرات هادفة للقياس تدخل في حسابها هذه المتغيرات النوعية.
في التحليل النهائي، فإن أفضل طريقة لتحديد مقياس الفقر والرخاء هو عن طريق أولئك الأكثر تأثراً. ومن المؤكد أن المقاييس التقليدية قد تقدم بصيرة قيمة ويمكن استخدامها لتساعد في تحديد الأماكن التي يجب أن تنتشر فيها الموارد، ولكن هذه المقاييس غير كافية لوحدها. إن مؤشرات التنمية الموجودة حالياً قاصرة عن إبراز الأبعاد الروحية والاجتماعية الجوهرية للحياة، والأساسية للغاية لخير وصلاح ورفاهة البشر. وبدون وجود طريقة لتحديد وتتبع هذه العناصر الضرورية للرخاء، فان جهودنا في مجال التنمية ستبقى تحت سيطرة التفكير والاعتبارات المادية وسيكون التقدم الحقيقي مجرد وهم. بناءً على ذلك، فليس الوقت مناسباً فحسب لمنظمات المجتمع المدني والمجتمعات الدينية للانهماك مع وكالات التنمية في وضع مقاييس جديدة للتقدم الاجتماعي، بل حاسماً وملحّاً.
ملاحظات:1-يقوم مركز أبحاث التطوير العالمي (IDRC) بدراسة ريادية للعلاقة بين الدين والعلم، وتأثيرها على التطوير. وقد جمع المركز مؤخراً الدكتور فرزام أرباب وهو بهائي، وفيزيائي في المجال النظري، والدكتور عزيزان بهار الدين وهو مسلم وعالم أحياء وفيلسوف في العلوم، والدكتور جريجوري بوم وهو كاثوليكي وفيلسوف متخصص في علم الأخلاق الاجتماعية، والدكتور بروميلا من كاپور وهي هندوسية وعالمة اجتماع، والأب بيل ريان وهو قسيس يسوعي يعمل في مجال الاقتصاد والعلاقات العمالية، جمع المركز هؤلاء للبدء في عملية تشاورية لدراسة تأثير أنماط العمل الحالية، وإمكانية أن يكون الدين عاملاً أساسياً مفقوداً في عملية التطوير. والأفكار التي قدمت ضمن هذه الوثيقة تتواءم مع جوهر هذه المشاورات.
2-من الممكن أن يثار الجدل حول أن القضايا الروحانية والأخلاقية تقع خارج إطار اهتمامات الجامعة العالمية بالتطوير، لأن هذه القضايا قد قُيّدَت عبر التاريخ برباط لا ينفصم بالعقائد اللاهوتية المتنافسة غير القابلة للبرهان الموضوعي المحسوس، وأيّ دور بارز للتوفيق بينها يجب أن يفتح المجال أمام تلك التأثيرات العقائدية بوجه خاص التي غذّت النزاعات الاجتماعية ووقفت حجر عثرة في سبيل تقدم البشرية، ولا شك أن هذا الجدل لا يخلو من الصحة. وختاماً فإن القول بأن الجواب يكمن في عدم تشجيع التحري عن الحقيقة الروحانية، وتجاهل الجذور العميقة للحوافز الإنسانية هو أمر يتعذر الدفاع عنه.
3- لوح الإشراقات، الإشراق الأول، كتاب مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله (مترجماً عن الفارسية) (ص23-24).
4-القول بأن كلاً من العلم والدين له دور يلعبه في عملية التطوير لم يعد بالأمر القابل للنقاش، فالضرورة تقتضي أن ترجع المواضيع الاجتماعية والتنظيمية المتعلقة بالتطوير الاجتماعي والاقتصادي إلى وجهات النظر والقيم الروحانية، إلا أن الطريقة التي تندمج فيها وجهات النظر الروحانية في نشاطات التطوير، يجب أن تتضمن الأساليب المنطقية الدقيقة نفسها التي اتبعهاالعلم، مما سيضمن أن ترتكز جهود التطوير على نتائج واقعية وموضوعية. وفي الحقيقة إذا كان للدين أن يصبح شريكاً للعلم في مجال التطوير فيجب التدقيق في مساهماته بعناية. ومن سوء الحظ أن الوضع القائم يتمثل في أن الدين الرسمي ينوء تحت عبء العقائد والممارسات التي تعمل ضد الجهود المبذولة لتحسين الأوضاع المادية، فالتعاليم الطائفية المتعصبة التي تشجع السلبية، وقبول الفقر، والاستثناء الاجتماعي، أو عدم المساواة بين الجنسين، يجب أن يقيَّم على أساس مفاهيم روحانية عالمية أكثر، تؤكد على أهمية العدل وخدمة الآخرين، ولذلك فتناول موضوع التطوير من جانب جديد يجب أن يسعى لتحديد تقاليد "الطريقة الأبوية" وغيرها من أنماط السلوك التي تعمل على تقويض مبادرات التطوير.
5- قد يتخذ التعاون بين الدين والعلم في ميدان التطوير أشكالاً عدة، وأحد الأمثلة الواضحة يقع في مجال التربية الأخلاقية. إن السلوك الأخلاقي تعبير واقعي ملموس لطبيعة الإنسان الروحانية، لذا فإن وضع نظريات وأساليب تربوية تعزز وتروّج بأسلوب منهجي منظم التطوير الأخلاقي، له أهمية خاصة. وتعلّم تطبيق المفاهيم الأخلاقية والروحانية لتحقيق التقدّم المادّي قد يعتَبَر حقاً متطلباً أساسياً لجميع المبادرات الاجتماعية والاقتصادية.
6- خطوة أولى مهمة في هذه الاتجاه تتمثل في تعزيز الوعي بقاعدة المعرفة القائمة لجامعة أو ثقافة واحترامها، مما يساعد الجامعة لبناء الثقة في قدراتها على وضع وتطبيق حلول مبتكرة للمشاكل الصعبة. ولدى وجود هذه الثقة يمكن استخدام العلم والتكنولوجيا بسهولة أكبر كأدوات للمحافظة على الهوية الثقافية وتوسيعها.
النص الانجليزي:Religious Values and the Measurement of Poverty and Prosperity
http://bic.org/statements-and-reports/bic-statements/99-0112.htm
BIC Document #99-0112